التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ذكريات مع الشيخ صالح السدلان


من مشايخي الذين اعتز بالتتلمذ عليهم والأخذ منهم ، شيخنا الفقيه العلامة صالح بن غانم السدلان رحمه الله ، وقد بدأت صحبتي للشيخ عام 1401 ه عندما حججت مرافقاً لشيخنا العلامة عبدالله بن عبدالرحمن التويجري والذي يشارك في برنامج الرئاسة العامة للإفتاء في الحج ، وكان من سعادة حظنا أن جمعنا مع عدد من المشايخ في ميناء جدة الإسلامي ، منهم الشيخ فهد الزكري والشيخ خلف المطلق والشيخ سعود البشر والشيخ عبدالرحمن الفريواني، والشيخ صالح السدلان ، والشيخ إسماعيل بن عتيق وأخرون، كما انضم إلينا بعد الحج الشيخ صالح بن فوزان الفوزان ، حفظ الله الجميع ورحم من مات منهم.
لقد أحببت الشيخ لحسن تعامله ودماثة خلقه، وتيسيره على الناس في فقهه وفتاويه، وتواضعه، وكان مما رأيته من الشيخ أن طلب من شيخنا المقرئ عبدالله التويجري أن يعرض عليه القرآن ، فكانا يجلسان وقتاً طويلاً يومياً، يقرأ الشيخ صالح والشيخ عبدالله يصغي ويصحح ، حتى ختم الشيخ صالح ،  ولعل الشيخ عبدالله منحه الإجازة بالسند ، والشيخ عبدالله مجاز من عدد من القراء الكبار، منهم الشيخ عبدالعزيز اسماعيل والشيخ إبراهيم الأخضر.
كان الشيخ صالح  هو مدير المجموعة ، وتميز بحسن الإدارة.
وبعد الحج توثقت صلتي بالشيخ ، فكنت أزوره باستمرار في بيته بحي العليا ، وكنت بحمد الله لا أحجب عنه ، وعرض علي أثناء إعداده لرسالة الدكتوراه أن أساعده في القراءة والبحث والكتابة لأن الشيخ يعاني من ضعف حاد في البصر لا يمكنه من القراءة والكتابة ، ومع أني كنت حينها طالباً في الثانوي ، إلا أن الشيخ زرع فيّ الثقة وشجعني فكان يطلب مني جمع المراجع والقراءة منها وترتيب المعلومات ، وكان يملي علي المادة ، وكنت قد أخذت فصلاً من فصول الرسالة - كان الشيخ خصصه لي - كما خصص لغيري من طلبته مثل ذلك.
كان للشيخ عناية كبيرة بحوائج الناس ويأتيه لذلك عدد من المحسنين يعطونه زكواتهم وصدقاتهم ليصرفها على المحتاجين ، وكان الشيخ يضبط ذلك كله بالأوراق والملفات ويوثق جميع ما يأخذه ويعطيه.
ركب معي في السيارة وكان في المقعد بلل من أثر غسل السيارة، فلما وصلنا إلى المسجد أحس بالبلل فقال لي بلطف: ما هذا ؟ فأخبرته ، فطلب مني أن نرجع إلى البيت وغير ملابسه ثم رجعنا ولم يؤنبني أو يتذمر لما حصل ، وأخبرني بسبب تغييره للملابس حتى لا يسيء أحد من المأمومين به الظن ، ثم درسني الشيخ الفقه في عدد من الفصول الدراسية في كلية الشريعة ، وكان للشيخ عناية بالدعوة إلى الله تعالى في البلاد الإسلامية وإقامة الدورات في أنحاء العالم ، وكان محبوباً من طلابه ، وكان درسه حيوياً نابضاً بالنشاط ، وكان يخلط الدرس بتعليقات وحكايات ونصائح وتوجيهات تزيل السآمة والملل من الدروس العلمية الدسمة ، وكان يسمح لطلابه بالتعليق والاستدراك والمناقشة ، بل ولا يأنف من نقد طلابه . 
بعد تخرجي من الكلية تقدمت للدراسات العليا في الكلية نفسها ، فطلبوا مني تزكية من بعض شيوخي، فكان الشيخ أول من بدر إلى ذهني، فذهبت إليه وطلبت منه تزكية، فرحب بي وقال لي ، لثقته بي : اكتب ما تعلمه عن نفسك واعرضه علي، فكتبت ما أعلمه حقاً، وعرضته عليه، فأقره ولم يغير منه شيئاً، وختم عليه بخاتمه رحمه الله.
كان الشيخ مشاركاً في الأنشطة العلمية والدعوية في الداخل والخارج بكل فاعليته فكان يقدم الدورات للمبتعثين، ويشارك في برامج الإذاعة، وبرامج التلفزيون مع الشيخ محمد الدريعي وغيره، ويلقي محاضرات المساجد كما كانت له دروس في مسجده لا تتوقف ويقرأ عليه بعد صلاة العصر في مسجده ويعلق، وله دروس في بيته ، كما كان يشارك في دعم الأعمال الخيرية في البلاد الإسلامية ، ويشارك في الإفتاء في الحج كل عام ، وذات مرة ونحن في الحج تحدثنا عن إجابة الدعاء عند الملتزم - وهو مابين الركن وباب الكعبة - فقال الشيخ: لقد دعوت الله عند الملتزم بثلاث فأجيبت اثنتان وأنا انتظر الثالثة، ووقع في نفسي أن الثالثة هي طلب الذرية، فإن الشيخ لم يرزق من الذرية إلا على كبر. وقال لي مرة: رأيت أني أصلي بالناس وأن المحراب يكاد يسقط ، قال فوقع في نفسي أن الرؤيا نذارة وأنه بسبب تخفيف الصلاة أثناء الإقامة.
حفظ الشيخ القرآن في صغره في بلدته في القصيم ، قال: ولما ختمت القرآن طافوا بي وأكرموني واحتفوا بي جداً، وهذا يؤكد أهمية تكريم الحفظة والخاتمين ، فإن لذلك وقعاً عظيماً في نفوسهم وفي نفوس والديهم، كما أنه سبب في اقتداء الآخرين بهم وتأثرهم بصنيعهم. 
ألّف الشيخ وحقق كتباً كثيرة ، كما كتب مذكرات للدورات العلمية الصيفية التي يشارك فيها.
كان الشيخ فقيهاً حنبلياً متمكناً ، لكن متى ظهر له الدليل أخذ به فلم يكن جامداً على المذهب.
يعتني الشيخ أثناء علاقته بطلابه بالجوانب التربوية، ويحث طلابه على الإفادة والنفع ومازلت أذكر أنه لما حثنا على ذلك سأله أحد الطلاب: وماذا يمكن أن نقدم ونحن طلاب شباب؟ فقال الشيخ على الفور: صل بالناس ، اخطب الجمعة ، وكان يزرع الثقة فيمن حوله ويجرئهم على المحاولة والتجربة ، اتصل بي ذات مرة بعد تخرجي من كلية الشريعة وقال لي: عندي محاضرة في الخرج غداً ولدي عذر يمنعني من القيام بها، فلعلك تنوب عني فيها، فقلت مبادراً: لا يمكنني يا شيخي الفاضل أن أكون بديلاً عنك ، هذا صعب علي ، وأنا مع ذلك قليل الخبرة ، ضعيف الإلقاء، لا يعرفني الناس، ولا يثقون بما عندي، وقبل الشيخ عذري بعد محاولات لثنيي عن الاعتذار، رحم الله الشيخ وأسكنه فسيح جناته ، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، وجعل ما قدمه من علم و عمل في موازين حسناته.