التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رحلة مع الشيخ فهد القاضي


قبل 10 سنوات يسّر الله لي أن أصحب الشيخ الفاضل فهد القاضي في رحلة دعوية إلى منطقة فطاني -جنوب تايلند -، لتقديم دورات علمية وزيارة المعاهد والمدارس الإسلامية وعدد من المشاريع الخيرية التي يرعاها ويقوم بها أصحاب الأيادي البيضاء من أهل هذه البلاد المباركة، ولم أكن أعرف عن الشيخ فهد القاضي حينها إلا أنه شاب عابد مجتهد في طاعة الله، وقبل الرحلة زارني الشيخ في بيتي ورتبنا أمور الرحلة، وكنا قد أخذنا التأشيرة من السفارة التايلندية، وظننا ذلك كافياً للإذن بالسفر إلى تايلند،ولمّا وصلت المطار وجدت الشيخ بانتظاري، ولكونه يكبرني بعشر سنوات وتبدو على محيّاه سيما الوقار والطاعة فقد وقع في قلبي هيبته ومحبته، ورأيت من واجبي أن أخدمه وأقدّمه على نفسي كلما سنحت الفرصة، فأفتح الباب له وأنازعه على حمل متاعه، ولا أجلس حتى يجلس، فلما رأى ذلك مني قال لي بلطف وأدب كعادته التي لا يغيرها، هل تعرف وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى لمّا بعثهما إلى اليمن؟ فقلت: نعم، قال: ماهي ؟ قلت: " يسّرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا "، قال: بقي ثالثة، قلت لا أعرفها، قال: " وتطاوعا ولا تختلفا " قلت سبحان الله ! لا أذكر أنها مرت بي، قال لي: لا ينبغي لنا أن نختلف على شيء ولو كان على سبيل الإكرام والإحترام، تدخل قبلي أو أدخل قبلك، تركب أولاً أو ثانياً، تتقدم أو تتأخر، كل ذلك ينبغي أن يجري بيننا بغير خلاف ولا شد ولا جذب، فأنا واثق من محبتك وأنت كذلك. فقلت: صدقت، واتفقنا على أن تجري الأمور بيننا بكل تطاوع ويسر، ورأيت أثرها المحمود على صحبتنا، وقلت في نفسي هذا أول الخير،ولمّا ركبنا الطائرة لم يلبث الشيخ غير قليل حتى استاك وبدأ بالصلاة على مقعد الطائرة، وظننت أنه يقضي الفائتة، ولما انتهى شرع في أخرى، فعرفت أنه يتطوع بالصلاة ويقضي الوقت في أجلّ عبادة، ولم يكن يفصل بين التسليمة والتي تليها إلا بالسواك، فإن كان الوقت نهياً فتح المصحف وظل يقرأ حتى أقطع القراءة عليه بسؤال أو حديث، أو يُقدّم لنا طعام أو يحتاج الشيخ للوضوء، قلت في نفسي هذه الثانية، ولم أكن رأيت في حياتي أحداً يتسلّى بالصلاة ويشتاق إليها ويتبشبش لها قبل الذي رأيته من الشيخ، وكان إذا دخل في الصلاة سكن واطمأن فلا حركة ولا التفات وإنما إقبال وقراءة وخشوع وطمأنينة، تذكرك حاله ومنظره بمن تقرأ عنهم من السلف الصالح، وهذا والذي نفسي بيده أقوله من غير مبالغة .لما وصلنا إلى المنطقة خيّرنا مضيفنا بين السكنى عنده أو في الفندق، فلما رأيت بيته ضيقاً أشرت على الشيخ أن نسكن الفندق لنوسع على أخينا ولا نضيق على أنفسنا، فأشار الشيخ أن نستخير الله أولاً، فصلينا الاستخارة واخترنا الفندق، وكان الخير في ذلك.ولم يكن أمر الطعام أو المنام مما يشغل بال الشيخ، فهو مشغول البال دائماً بطاعة ربه ما بين صلاة وتلاوة ونصح وتذكيرٍ بمعروف وإرشاد ضال وتعليم علم وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهذا النمط من الحياة ما رأيته من أحد صحبته قبل الشيخ، ولا من أحد بعده على كثرة من خالطتهم وتنوعهم،كما رأيت في الشيخ خصلة قلَّ أن تراها في الناس وهي تركه لما لا يعنيه، فلا يسأل ولا يتحدث إلّا عما يعنيه، وهذا من حسن إسلام المرء.وعندما بدأت الدورة وكانت في إحدى الجامعات التايلندية، كان الشيخ يُقدّم حصته ثم يذهب إلى مصلّاه حتى ينتهي الوقت، وكنت إذا انتهيت جلست مع الإخوة نتجاذب أطراف الحديث ونسأل عن البلاد وعادات أهلها ونخوض فيما يخوض فيه الناس، وإذا جاء الشيخ وجلس ولم يكن يخوض فيما نخوض فيه إلا أن يكون أمراً نافعاً وشيئاً من الحق فيدلي بدلوه بكلماتٍ معدودات، لو شاء المحصي أن يحصها لأحصاها، وما رأيته ضاحكاً حتى يقهقه، إنما هو التبسم، والكلام الرصين، والصوت الخفيض،وكان إذا سمع منكراً من القول بادر إلى النصيحة، ولو كان المتكلّم ذا مكانة في قومه، لكنه يجلّلها باللطف والرفق، والخصوصية، ثم لا يتحدث عن ذلك ولا يذكره في خاصة ولا عامة إلّا عند الحاجة.وكان الشيخ يتحرى الصدق في كلماته ونقولاته، ويدقق في ذلك، ولا يبالغ في توصيف أمر أو الإخبار عنه، ويأنف من الكذب ولو على سبيل المزاح، قلت مرة ونحن نأكل سمكة وقد أتينا على ما في ظهرها من اللحم، هذه السمكة تقول: اقلبوني، فقال لي كالمعاتب: وهل قالت ذلك ؟، فعرفت ما يريد.ووجدنا أحد الشباب العرب ممن ذهب للدعوة هناك فمرض، فذهبنا لعيادته، فأخبرنا بعض من لقيناهم أن ممرضة تأتي إليه لتمريضه وتحمله أحياناً في سيارتها للمستشفى، وأنهم لا يحبون أن يفيض على الألسنة أو يرى الناس أحداً من الدعاة يتهاون في العلاقة مع امرأة أجنبية ولو كانت بريئة، وكانوا يستحيون من مفاتحته نظراً لحساسية الأمر، فما شعرت إلّا والشيخ ينفرد به ويكلّمه برفقه المعهود، وينهي المقالة في هذا الأمر بكل يسر.وكنت إذا ذكّرت الشيخ بأمر من الخير بادر إلى العمل به وشكرني على تذكيره، ولم أرَى الشيخ يفزع إلى شيء كما يفزع إلى الصلاة المفروضة، يتهيأ لها قبل دخول الوقت، ويبادر إلى الصف الأول، فإما كان مصلياً فهو يتلو كتاب الله، أو يذكر الله في جلسة وقورة، حتى تُقام الصلاة، وكان سواكه في جيبه لا يفارقه لا في سفرٍ ولا حضر.عندما حان رجوعنا غُيّر خط السير ولم نؤكد الحجوزات بشكل محكم، سهواً وقلّة خبره، فطرنا من بانكوك إلى المنامة، ولما وصلناها وجدنا حجزنا إلى الرياض غير مؤكد، والمطار مزدحم لأننا في يوم جمعة، فطلبوا أن نبقى يوماً إضافياً، فاقترح الشيخ أن ندخل عبر جسر البحرين إلى مطار الشرقية ومنها نأخذ الطائرة إلى الرياض، ولما وصلنا إلى الجوازات حصلت مشكلة مع موظف الجوازات لم نتوقعها، فأخذ جوازاتنا وطلب منا أنا نأتي لمقابلة الضابط يوم السبت، فاقترح الشيخ أن نذهب إلى صديقه الشيخ حمد الزيدان مدير المعهد العلمي في الدمام، ولما وصلنا للشيخ حمد رحّب بنا وفرح بالشيخ، وسأله عني، وقال: عرّفني على صاحبك، فقلت: لا تعرّفه عليّ، بل أنت تعرّف علي يا شيخ، فصوّب نظره فيّ ثم قال على البديهة: ماذا يكون لك فلان ؟ قلت: هذا خالي الشقيق، فقال: رأيت فيك شبهه، وعجبت من فراسة الشيخ حمد، ثم سألنا ما الذي أقدمكم ؟ فأخبرناه الخبر فهوّن علينا وبدأ يتصل بأصحابه ومعارفه ليحلّوا المشكلة، لكنه لم يجد عندهم حلاً، ولما أصبحنا ذهبنا للجوازات لمقابلة الضابط، إذا بي أٌصادف عند مدخل الجوازات ضابطاً من زملائي في الثانوية فرحب بي، وقال: ما حاجتك ؟ فأخبرته الخبر، فأمرنا بالانتظار ودخل إلى الضابط يستعلم الأمر، وأدلى بشفاعته، فقبل منه الضابط، ودخلنا عليه وشكرناه وتسلمنا جوازاتنا، ولما خرجنا توجه الشيخ فهد إلى المصلى فسجد لله شكراً على انتهاء المشكلة من غير تبعات ولا مشقة، وأنا على يقين من أن هذا اليسر الذي لقيناه كانت وراءه دعوات الشيخ وابتهالاته.جمع الله للشيخ العلم والعبادة والدعوة، والتعليم، والاحتساب، مع الزهد والورع، وقلّما يجتمعن في رجل، وقد رأيت كثيرين من أهل العلم ليسوا أهل عبادة، ومن كان منهم متعبداً فيندر أن تجده محتسباً آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر.كان الشيخ يقضي كثيراً من وقته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يسمع بمنكرٍ إلا شارك في النهي عنه والاحتساب على أهله برفق تام وبعد عن الضجيج والتأجيج، وإذا ذُكر له منكراً توثّق من الخبر وشدد في ذلك، لأن كثيراً مما ينقله الناس من أخبار المنكرات تنقصها الدقة والتثبت، وكان الشيخ لا يفرّق في إنكار المنكر بين الصغير والكبير والمسؤول وغيره.وبالجملة، فما رأت عيني مثله في زهده واحتسابه وعبادته وتركه مالا يعنيه واهتمامه لأمر المسلمين، ولا أظنه رأى مثل نفسه ممن هم في طبقته أو دون طبقته.  

كتبه الشيخ: محمد بن عبدالعزيز الخضيري

١٥\٣\١٤٢١هـ