أما بعد ، فقد بيّن النبي ﷺ في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " متفق عليه .
فبصلاح القلب يصلح القول والعمل ؛ وبفساده يفسدان ، ولذلك يركّز الشيطان جهدَه على القلب ليضمن بذلك الخسارة الكاملة للإنسان والتّمكن منه، وله في ذلك ثغورٌ أربعة ؛ ينفذ منها إلى قلب ابن آدم، فإذا حفِظها الإنسان وداومَ مراقَبتها ورعايتها وقام عليها خيرَ قيام قطَع على الشيطان طُرق الوصول إلى قلبه والتشويش عليه وإشغاله بما يضره أو على الأقل بما لا ينفعه في دينه ودنياه ، وعلى العبد أن يعرف هذه الثغور فيُرابط على حراستها وحفظها كما يرابطُ المرابط على ثغور البلد لئلا ينفذ الأعداء من خلالها إليه فيحتلوه ويبيدوا أهله.
الثغر الأول : ثغرُ الخواطر والأفكار التي تهجم على قلب ابن آدم أو يفتعلها و يستجلبها فإنها من أعظم طرق الشيطان للدخول على قلبه والعبثِ به والتشويش عليه وصرفه عن عبادة الله والإقبال عليه والإنابة إليه وعلى الإنسانِ أن يدفعها ويردّها بكل قوة ويستبدلها بما هو نافع مفيد يعمر به قلبه ، فبدلاً من أن تفكّر في جمال فلان أو رزقه أو تصرفاته التي لا تعجبك ، فكر في طاعاتك و معاصيك وما تصلح به دينك ودنياك ؛ لتسدّ على الشيطان هذا المنفذ الخطير والثغر الكبير الذي لا ينتبه له كثيرٌ من الناس ولا يحترسون لأجله ، وقد لا يفكّرون في خطورته وشدة استثمار الشيطان له في خراب قلوبهم .
الثغر الثاني : فهو ثغرُ العين، فإذا أطلق الإنسان بصرُه ولم يلجمه بلجام التقوى دخل الشيطان من طريق العين إلى القلوب فعاث فيها إفساداً ، ولكون البصر من أيسر الأشياء فإن كثيراً من الناس لا يحترسون مما يبصرونه ويظنون أن ذلك لا يؤثّر على قلوبهم وإيمانهم وسيرهم إلى ربهم ، فقد يرى الرجل المرأة السافرة فيدق الشيطان طبول الحرب على القلب ويصارع الإيمان بتلك الصورة فتثقل الجوارح عن العبادة واللسان عن الذكر ويذهب الخشوع ، ويستمر الشيطان يمرر تلك الصورة على القلب حتى يتوب وينيب أو يقع في حبائله ويستجيب لدعوته وذاك ما يبغيه ويُسر به ، ولا يقتصر أمر الشيطان في استغلال البصر عبر المحرمات بل حتى عن طريق المباحات التي يطلق الإنسان فيها بصره ، فإنها تبلبل قلبه وتشغله في صلاته ؛ وتصرفه عن مهماته.
و على الحريص على قلبه أن يضبط بصره ويزمّه بزمامِ التقوى وأن يجعل عامةَ ما يبصره ما يكون به انتفاعه وسلامة قلبه .
الثغر الثالث : ثغرُ الأذن ، ومنه ينفذ الشيطان إلى قلب الإنسان عبرَ المسموعات سواءً كانت محرمة أو مباحة ، فعند سماع الإنسان لغيبةٍ أو غناءٍ محرم فأوّل متأثّر بذلك هو القلب ، وكذلك عندما يسمع الإنسان اللغو والكلام الفارغ ، فإن القلبَ يتأثر والشيطان يستغل الكلمات ويشوش بها على القلب ، ولاحظ نفسك عندما تصلي في الليل بعد نوم ، وعندما تصلي بعدَ جلسةٍ ممتعة مع عددٍ من الأصدقاء أخذتم فيها بضروبِ من الحديث المباح ، كيف تجد الفرق بين الصلاتين ؟ ما ذاك إلّا لأن الشيطان استثمر المسموعات في إشغال القلب عن الإقبال على الله تعالى .
الثغر الرابع : ثغرُ اللسان، وهو ما يتكلم اللسان به ويتحدث به الإنسان ، وهذا من أخطرِ الثغور ، فالشيطان ينفذ من كلمات المرء إلى قلبه ، ولذلك جاء التحذير الشديد من خطر اللسان والتشديد على أمر السداد في الكلام لشدة تأثيرهِ على الإنسان فيعاجله وآجله في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ قال: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت " رواه مسلم
وقال ﷺ في حديث معاذ "وهل يكبُّ الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" ولم يؤمر الإنسان بالقرآن بالسداد في شيء من عمله كما أُمر به في اللسان، قال تعالى في سورة النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) وقال في سورة الأحزاب : (فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) ، والقول السديد هو القول الموافق للحقِّ الذي يزيد عليه ولا ينقص عنه، وإنما شُدّد في أمر اللسان لأنه العضو الوحيد الذي يملكه الإنسان ملكاً كاملاً فهو يقدر أن لا يتكلم بكلمة واحدة إلا وهو يزنها وتكون معبرة عن المعنى ، بخلاف البصر والسمع فإن المرء لا يملكهما وقد يقعان على ما لا يريده الإنسان ، وكذلك الخواطر فقد تهجم على الإنسان بلا استئذان ، وأما اللسان فإنك تقدر في حالة الاختيار أن لا تقول إلا الحق ولذلك شدد فيه .
فعلى المرء أن يحذر من هذه الثغور الأربعة :
" الخواطر والبصر والسمع واللسان " فإنها أعظم مداخل الشيطان وعليه أن يدرب نفسه على حراستها ويتيقظ لطريقة إبليس في الدخول من خلالها ، وإلا فإن الشيطان يفترسه ويأسره ولا يرحمه .
والله الموفق.
كتبها:
محمد بن عبد العزيز الخضيري.