التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رحم الله الدكتور يحيى عبد الله


من العلماء الكبار والدعاة المؤثرين الذين حظيت بمعرفتهم وصحبتهم د. يحيى عبدالله ، وهو من جمهورية تشاد من منطقة أبشة شرقي البلاد ، وهذه المنطقة تشتهر بأمرين: العلم، ورعاية التصوف، فالعلماء من أهلها كثير وقد وقعت فيها موقعة " كُبْكُب" عندما جمع الفرنسيون قرابة 400 عالم من أهلها فقتلوهم بالسواطير التي تسمى عند الناس هناك: (كُبْكُب) وكانوا قد وعدوهم أن يعاقدوهم ويصالحوهم، فغدروا بهم شر غدر، والشيء من معدنه لا يستغرب، كما أن المنطقة ترعى التصوف على الطريقة التجانية ، ولذا نشأ الدكتور في وسط علمي وصوفي وتعلم على علماء بلده وحفظ القرآن الكريم في صغره ، وحفظ المتون التي يحفظها الطلبة عادة في العقيدة والفقه واللغة والتصوف ، ثم يسر الله له أن يلتحق بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في كلية القرآن الكريم ويجمع القراءات العشر، وقد لاحظ زملاؤه وأقرانه ما كان عليه من سعة العلم وكثرة المحفوظ ، ومما حصله في الجامعة معرفة طريقة السلف واعتقادهم، فنبذ التصوف، ولزم منهج أهل السنة، ثم ارتحل إلى السودان وأكمل مرحلتي الماجستير والدكتوراه، وكان يخطب في العاصمة الخرطوم ويحضر خطبه كبار المسؤولين لما يتمتع به الدكتور من علم وحفظ وبيان مع فهم للعصر ومايجري فيه.
ثم رجع إلى بلده بعد رحلة علمية طويلة قضاها بين المدينة المنورة والخرطوم انتفع بها ونفع ، ولما رجع افتتح مؤسسة خيرية علمية دعوية ، ووضع أمامه مشروعين جعلهما أهمَّ مشروعاته ، أما الأول: تأهيل حفاظ القرآن الكريم ليواصلوا دراستهم من أجل أن ينتفع الناس بهم ويخدموا مجتمعاتهم، حيث إن الخلاوي القرآنية تخرج مئات الطلاب سنوياً من خاتمي القرآن الكريم لكن بلا شهادات ولذلك ينتشرون في الأرض يبحثون عن الرزق عبر مختلف المهن ، لكنهم لا يتمكنون من الوظائف الحكومية، ولا من التخصصات  العلمية، ولا يسمح لهم بدخول الجامعات لأنهم بغير شهادات ، فجاءت فكرة جمع هؤلاء الحفاظ من خريجي الخلاوي ومنحهم شهادة الثانوي بعد تأهيلهم علمياً غالباً ، فانتفع ذلك جموع غفيرة من الطلاب وفتح للناس بهذا المشروع باب خير كبير ، بحيث يستفيد هؤلاء الطلاب، ويستفيد المجتمع منهم، ويكون حملة الشهادات الجامعية من حفاظ القرآن الذين تربوا في خلاوي القرآن.
وقد وفقني الله لزيارة أحد المعاهد التي أنشأها الشيخ يحيى لهذا الغرض، ورأيت فيها ما سرّني وابهجني ، حيث ترى جميع الطلاب من حفاظ القرآن وهم جادون في تعلم العلوم الشرعية العصرية وغيرها ويرون المستقبل مشرقاً أمامهم ، خلاف ما كانوا عليه من قبل ، حيث كانت بأيديهم المهن الرديئة والأعمال التي لا تليق بأمثالهم. 
وأما المشروع الثاني: فهو أسلمة القبائل الوثنية في جنوب تشاد ، وقد وجد أن قبيلة الماساي من القبائل التي يسرع أهلها للدخول في الدين إذا دعوا إليه ، ويتجاوز عددهم المليون - ما بين دولتي تشاد والكاميرون - ولذا ركز الشيخ جهده الدعوة فيهم ووظف عدداً من الدعاة المتفرغين لهم ، وتوغل في قراهم وبواديهم فأسفرت جهوده ومن معه عن إسلام ما يقارب الأربعمائة ألف نسمة منهم ، وإذا قدرنا أن ربع هذا القدر قد ثبت على إسلامه فإن الشيخ ومن معه قد فازوا بمائة ألف من الوثنيين على الأقل أدخلوهم الدين على اعتقاد صحيح فلهم أجرهم وأجر ذرياتهم ومن اهتدى بهم إلى يوم الدين ، وقد أطلعني على جهوده في هذا المضمار ورأيت ما يبهج الخاطر ويسر النفس ويبعث على الاغتباط ، ولو كان لأحد أن يزيد على قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا في اثنتين : .. " لزدت هذا الأمر لما فيه من الفضيلة العظيمة والأجر الكبير والغنيمة الوافرة.
 أما على مستوى الجهد الشخصي فإن الشيخ بعد رجوعه من رحلته العلمية افتتح حلقة علمية في إحدى الساحات في العاصمة "إنجمينا" لشرح الموطأ وبعض المتون ، وكان عدد الحضور بالمئات وقد أشرت على الشيخ أن يتوجه لتفسير القرآن ويربط الناس بكتاب ربهم ويفسر الآيات بما يناسب أفهام الناس ويبتعد عن المسائل التي لا تعنيهم ولا تغنيهم ويركز على تدبر الآيات وتنزيلها على و اقع الناس ، وكان متخوفاً من الفكرة ، ولكنه اقتنع بها ونفذها ، وكثر حضور الدرس وزاد على الألفين كما أخبرني ، وذكر لي أنهم مغتبط جدا بدرس التفسير وأنه لقي قبولاً لدى الناس أكثر من غيره ، ولعل الله يهيئ من طلاب الشيخ من يفرغ المواد المسجلة من دروس الشيخ لعلها تطبع وينتفع بها الناس.
تميز الشيخ رحمه الله بسعة الصدر ، والحلم، كما أنه كان محباً لتنظيم عمله والتخطيط له ، ويستشير أصحابه ومرافقيه ، ويؤكد كثيراً على أهمية المشورة في العمل الدعوي ، وكان حكيماً في معالجة المشكلات التي تطرأ على الساحة بين الدعاة. 
ذات مرة دخلنا قرية من قرى تشاد وقد وقعت خصومة بين أعضاء المجلس الإسلامي وبعض الدعاة المحتسبين وكان من خبر هؤلاء الدعاة أنهم بنوا مسجداً ولما رأوا أن جامع القرية يمتلئ يوم الجمعة رغبوا أن يجعلوا مسجدهم للجمعة أيضاً ، فأبى رئيس المجلس أن يعطيهم الإذن لما يخشاه من ذهاب جاهه وتأثر الناس بهؤلاء الدعاة ، خصوصاً وأنهم على منهج أهل السنة ، وليسوا من الصوفية كرئيس المجلس ومن معه ، وقد طلب منه الدعاة إما أن يأذن لهم أو يوسع جامع القرية فأبى الأمرين ، فما كان منهم ألا أن دعوا الناس لصلاة الجمعة وأقاموها في مسجدهم ، فلما زار الشيخ القرية كانت الفتنة قائمة والناس متوترون ، وكنت معه في تلك الرحلة فطلب من رئيس المجلس أن نلتقي به فالتقيناه ، وكان يعلم أن للشيخ كلمة مسموعة عند أولئك الدعاة ، وأخبرنا بأنه غير راض عن تصرفهم ويطلب من الشيخ أن يوقفهم قبل أن يرفع الأمر للحكومة ، فما كان من الشيخ إلا أن بين لرئيس المجلس أن الحكومة لا تتدخل في مثل هذا الشأن ، ولا سلطان له عليهم ، ولكن ينبغي حل الأمر ودياً وبالطرق السلمية ، ونصح رئيس المجلس بأن يلزم الحكمة والهدوء وأن يتدثر بالصبر واللين حتى تكون له كلمة مسموعة ولا يتفرق الناس بسبب سوء تصرفه ، وطلب من رئيس المجلس أن ينتظره حتى يلتقي بهؤلاء الدعاة ويسمع منهم ، وبالفعل التقينا بالمجموعة الأخرى وجلسنا معهم وعلمنا أنهم كانوا مضطرين لما فعلوا، وأنهم لم يلقوا أي تجاوب من المجلس ولا رئيسه ، فما كان من الشيخ إلا أن وعدهم أن يتحقق مطلبهم لكن بالصبر والحكمة والمسايسة ، لئلا تحدث فتنة ويحدث مالا يحمد عقباه، ورضي هؤلاء بما طلبه الشيخ منهم وأنهم سيوقفون صلاة الجمعة في مسجدهم حتى يأذن لهم المجلس ، وفي الصباح زرنا رئيس المجلس وتحدث إليه الشيخ بأنه استطاع اقناع الدعاة بالتوقف ولكن على الأقل أن يأخذوا إذناً من رئيس المجلس لتحل المشكلة ، وكان مع الشيخ بعض الهدايا التي أعطاها لرئيس المجلس ، فقبلها ووعد الشيخ خيراً ، وماهي إلا أيام حتى صدر الإذن لهؤلاء الدعاة بإقامة الجمعة في مسجدهم وانطفأت الفتنة بحمد الله ، ثم بحسن تصرف الشيخ يحيى وحكمته رحمه الله.
وكان رحمه الله لطيفاً في معاشرته ، سهلاً في تعامله ، يمازح ويداعب مرافقيه وإخوانه وهو أحد مؤسسي اتحاد علماء إفريقيا ، وله يد طولى في وضع نظامه الأساس وقد شرفت بحضور حفل إعلان الاتحاد ، وكان ذلك في عاصمة جمهورية مالي، وحضره لفيف من علماء القارة.
وقد ألقى دورة علمية في الخرطوم سجلتها له قناة طيبة الفضائية وبثتها ، فكان مدير القناة يثني عليها ويطلب أن أُقنع الشيخ لتسجيل عدداً من البرامج للقناة لما رأى له من القبول وحسن الوصية وسعة العلم والاعتدال في الطرح.
وأخبرني الشيخ أنه من نسل العباسيين - والله أعلم بصحة ذلك.
وكان الشيخ رحمه الله سخياً جواداً يحبه أصحابه والعاملين معه ، لأنه كان يتفقدهم ويشفع لهم ويواسيهم، وكان له جاه عريض في قبيلته ، لا يردّون له كلمة ولا استطاعة ، وقد يسر الله له أن يُدخل دعوة أهل السنة إلى منطقته بلطف وحكمة  ومن دون مشادات ولا مشاجرات ، وجرت له في ذلك قصص طويلة لا أضبطها لكنها تدل على تمكنه في باب الدعوة وحكمته وصبره وأناته ، لقد تركت وفاته فراغاً في الساحة الدعوية ، ولعل الله يقيض من تلاميذه من يسد مسده ويقوم بالأمر من بعده.