في عام 1426 ه رافقت اثنين من الدعاة للاطلاع على أحوال الدعوة
والدعاة في دولة توجو ، وهي دولة تقع غرب أفريقيا ، وتحديداً غرب نيجيريا وبينهما
دولة بنين ، ومررنا أثناء جولتنا على مدينة (أنيه) وتبعد عن العاصمة قريباً من 200
كم شمالاً، وذكر لي مرشد الرحلة أن فيها داعية نشيط من خريجي الجامعة الإسلامية ،
وله أثر كبير في إسلام القرى الوثنية المتناثرة في منطقته ، واسمه حميد أبوبكر،
فزرناه وسألناه عن نشاطه الدعوي الذي يقوم به فأخبرنا بأنه مهتم بدعوة غير
المسلمين ، وأنه وجد استجابة وقبولاً يحمد الله عليه ، ثم قال: لقد أعددت لكم أربع
قرى ستدخل الإسلام بحضوركم وترون ذلك بأم أعينكم ، وتحركت قافلتنا الدعوية إلى
القرى المقصودة ووجدنا أهلها قد استعدوا لاستقبالنا واجتمعوا تحت ظل دوحة كبيرة
ينتظرون مقدمنا.
كان داعيتنا يصل إليهم عادة على دراجته النارية وقد يكون معه رديف ،
وقد يكون منفرداً ، وأحياناً يكون معه عدد من الدراجات لكنه هذه المرة جاء بصحبتنا
على السيارة ، وبالفعل مررنا على القرى الأربع ودخلت الإسلام، ونطق الناس
الشهادتين، وحدثناهم حديثاً مجملاً عن مهمات الدين ومحاسنه ورغبناهم في الثبات
عليه ، وحمدنا الله على ما شاهدنا ، وسألت الداعية حميداً : من أين لك هذه الهمة
الدعوية والحماسة في نشر الدين والحرص على هداية الناس؟ فقال لي: لقد درست في
المملكة العربية السعودية في الجامعة الإسلامية ، وتعلمت منها خيراً كثيراً وعلماً
وفيراً ، وكان من بين أشياخنا في الجامعة شيخ يصطفي عدداً من الطلاب ممن يتوسم
فيهم الحرص على العلم والالتزام بالدين ويضع لهم دروساً إضافية في بيته في التفسير
والعقيدة والحديث والسيرة والتربية والدعوة ، ويحثنا على الدعوة ونفع الخلق وتحمل
المسؤولية ، ويجيب على أسئلتنا ويرسم لنا طريقاً آمناً في الدعوة لا إفراط ولا
تفريط، وكانت كلماته ومواعظه تقع من قلوبنا موقعاً كبيراً، وتؤثر فينا أثراً
بالغاً، ولذلك لما تخرجت من الجامعة كان الطريق واضحاً عندي ، فجئت إلى بلدي وبدأت
الدعوة في القرى المشركة واستجاب الناس للدعوة ، وقبلوا ما جئتهم به بحمدالله، وزارني
شيخي وشدَّ على يدي ووجهني ونصحني وثبتني ، قلت له: من شيخك هذا؟ قال لي: الدكتور
محمد بن مطر الزهراني ، أستاذ الحديث بالجامعة - رحمه الله - وقال لي: إنما
استفدته من الشيخ لا يقل عما استفدته من الجامعة ،لأن الجامعة أفادتني كثيراً في
الجانب العلمي ، وأما في الجانب التربوي والدعوي وبعث الهمة والمسؤولية وطريقة
الدعوة فإني استفدت ذلك من الشيخ ودروسه التي كان يعقدها لنا بشكل أسبوعي، ونشعر
فيها بأن الشيخ يقترب منا ويصلح أخلاقنا ويداوي جراحنا، ويرفع همتنا ، ويكسر
الحواجز التي قد نجدها مع عامة شيوخنا لأننا لا نعرفهم إلا من خلال قاعة الدرس ولا
نجالسهم ولا نؤاكلهم ولا نشاربهم ، ولا نراهم في سائر أحوالهم ولا نتعرف عليهم من
قرب ، فنرى جوانب القدوة في حياتهم، لكننا نغرف من علمهم ونستفيد منهم في حدود
معينة، وفي عام 1435 ه جمع حميد أبوبكر زملائه في الدعوة والطلب من أنحاء البلاد
في اجتماع دوري يعقدونه كل عام للتفاكر والتذاكر حول الدعوة وهمومها ، ويحث بعضهم
بعضاً على بذل الجهد ومواصلة العمل وكان داعيتنا هو منسق اللقاء عادة ، فلما اجتمع
الشمل وقرب الحفل دخل حميد أبو بكر بيته ليتأهب للقاء الدعاة الكبير وإذا بالموت
يفاجئه ليلقى الله قبل أن يلقى أخوته في الله ، وكانت فرصة ثمينة أن تتهيأ الفرصة
لعموم الدعاة بالصلاة على أخيهم وكأنهم قد جمعوا للصلاة عليه وحضور جنازته وكان
جمعاً عظيماً ومشهداً مهيباً ، وقد بلغني خبر وفاته فتأثرت كثيراً ، وسألت الاخوة
عن عدد القرى التي أدخل إليها الإسلام ، فقالوا لي: لا ندري على وجه التحديد لكنها
تزيد على الخمسمائة قرية ، والقرية يتراوح سكانها عادة بين الخمسين والخمسمائة وقد
يزيدون ، ولما زرت مدينته بعد عام من وفاته مررت على قبره وسلمت عليه، ورأيت بيته
المتواضع الذي بناه من بقايا مكافآت الجامعة الإسلامية ، رحم الله حميداً ورحم
شيخه الذي رباه الدكتور محمد بن مطر الزهراني وجمعنا بهم في دار كرامته.