عرض القرآن من السنن المعهودة المعروفة عند السلف ، أن يعرض القارئ
تلاوته للقرآن على شيخ متقن ليصحح له أخطاءه ويعلمه طرائق الأداء في الألفاظ التي
لا يمكن أن يأخذها من الكتب لأنها تحتاج إلى السماع والمشافهة، وهذا أمر قد يخفى
على بعض المتعلمين فيظنون أن مجرد معرفة المرء للقراءة كاف في إتقان تلاوة القرآن
كما يظنون أن إتقان أحكام التجويد في سورة منه أو جزء من أجزائه مُغنٍ عن عرض بقية
القرآن على شيخ ضابط ، وقد كان الناس في أول الأمر يجتمعون عند القارئ فيسمعون
تلاوته ، ويرون طريقة أداءه ويكتفون بذلك ، وذلك لسلامة اللغة وفصاحة الألسن ،
ولأن العجمة لم تستفحل في الناس بعد.
ثم احتاجوا إلى أن يقرأ القارئ القرآن عرضاً على الشيخ من أوله إلى
آخره ، وقد يحتاج إلى أن يفعل ذلك مرة ثانية وثالثة حتى يطمئن إلى بلوغه حد
السلامة من اللحن والخطأ في التلاوة ، والتساهل في عرض القرآن على شيخ ماهر
بالتلاوة يعرّض الإنسان للحرج ويوقعه في اللحن ، ولازلت أذكر أني صليت بالناس قبل
أن أعرض القرآن على قارئ متقن، فقرأت قول الله تعالى: " يوم يجمع الله
الرسل فيقول ماذا أُجبتم " [المائدة: 109] قرأتها : " أَجبتم"
فرد علي أحد المصلين فتنبهت للخطأ الذي لم أتفطن له قبل ذلك مع شدة وضوحه ، وصليت
خلف رجل حسن الصوت والتجويد من طلبة العلم ، فقرأ قوله تعالى: " فاصدع بما
تؤمر وأعرض عن المشركين " [الحجر:94] قرأها: " تؤمرْ "
بإسكان الراء وهي مضمومة ، ومثلها مما يقع فيه اللحن " يا أبتي افعل ما تؤمر
ستجدني إن شاء الله من الصابرين " [الصافات:104] فيسكن القارئ الراء حالة الوصل
ظناً منه أنها مجزومة وليست كذلك ، ومما يؤكد أهمية العرض أن بعض الأحكام
لابد فيها من التلقي والمشافهة كحكم الإشمام في قوله تعالى: " مالك
لاتأمنا " [يوسف:11] فإنه يجوز
لحفص فيها الإشمام والاختلاس وكلاهما لا يتوصل التالي لمعرفته على وجه الإتقان إلا
بالمشافهة ، وكذلك النطق بالتسهيل في قوله: " أأعجمي وعربي " [فصلت:44]، والإمالة في قوله تعالى: "بسم
الله مجراها " [هود:41] لا يهتدي الإنسان لكيفية أدائها إلا بالمشافهة
والتلقي من أفواه المشايخ الضابطين.
ولما جاءت الشهادات الجامعية صار الطالب يحصل على أعلى الدرجات
العلمية وهو لم يعرض كتاب الله كاملاً على قارئ ضابط ، وقد يُصّدر أو يؤم أو يدرس
القرآن في مدرسة أو جامعة ويكون محل القدوة ويظن نفسه ضابطاً وهو ليس كذلك ، وهذا
خطأ جسيم ، وقد قال الأوائل: لا تأخذ العلم من صحفي ولا القرآن من مُصحفي ، أي من
شخص قد قرأ القرآن من مصحف ولم يأخذه من أفواه المشايخ ، ولو نسيت ما نسيت شيخاً
لنا كان يدرسنا القرآن في المعهد العلمي وكان حافظاً له ، وكنا نقرأ عليه في سورة
إبراهيم وفي الآية الثانية " اللهِ الذي له ما في السموات" [إبراهيم:22]
فقرأ الطالب لفظ الجلالة بالكسر كما هي مضبوطة في المصحف فرد الشيخ عليه وقال: "
اللهُ " فأصر الطالب وألح الشيخ وعلل قائلاً : إنما يكسر لفظ الجلالة
عندما تصل الآية الأولى بهذه فتقول:
" إلى صراط العزيز الحميد، اللهِ " أما إذا بدأت بها فإنك
ترفعها وتنطقها بالفم ، واحتدم الخلاف بيننا وبين الشيخ حتى احتكمنا إلى شيخ أخر
فتبين لشيخنا خطؤه .
والقصص والأخبار التي تؤكد ضرورة عرض القرآن وتلقيه من أفواه المشايخ
المتقنين كثيرة ، ولا يغرنك زهد الناس في هذا أو تقليل بعض طلبة العلم من شأنه
فإنه مزلة أقدام.