التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الحكمة في الدعوة


لما أمر الله بالدعوة بين أهمُّ أساليبها فقال: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "  والحكمة باب واسع يختلف باختلاف الأحوال والمدعووين والأزمان والأمكنة ، والحكيم هو الذي يعرف كيف يقدم دعوته بحيث يوصلها إلى غيره بطريقة سليمة ، مقنعة، ويتحرى قدر استطاعته أن تحضى بقبولهم وتؤثر فيهم ، ومن نظر مثلاً في قصة مؤمن آل فرعون عندما دافع عن نبي الله موسى ودعا قومه عرف ما أوتيه هذا الرجل من الحكمة العظيمة في الدعوة ، وهكذا دعوة أنبياء الله صلوات الله عليهم ، فهم أرباب الحكمة البالغة في دعوة الخلق ، وقد حدثني أحد المشايخ أن أحد طلابه جاء إليه باثاً شكواه مما يلقاه من العنت والمضايقة في بيته ، وكان هذا الشاب حديث عهد بهداية ويذكر أن أخواته يتقصدون وضع التلفاز على الأغاني أو الأفلام عند وصوله للبيت ليخرج أو يعتزل في غرفة بعيدة ، فسأله الشيخ عن سبب هذا القصد فأخبره أنه أنكر عليهم بغلظة الاستماع لهذه المنكرات وشدد النكير عليهم ، فاختلفوا معه وارتفعت الأصوات وكثر اللغط ، ورفعت القضية للأب الذي يحب أن يكون البيت هادئاً وأن يعيش الجميع بسلام ووئام ، فوجدهم متفقين على فتح التلفاز على ما يشتهون  إلّا هذا الشاب ، فانكر عليه وقال له: إما أن توافقهم أو تعتزلهم ولا مجال لقبول ما تطلبه منه ، وهنا رضخ الشاب وصار يدخل البيت ويجلس في مجلس الرجال معتزلاً، وكلما اعتزم الدخول أو الجلوس مع أهله ووالديه رُفع صوت الموسيقى فقام وانصرف ، فقال له الشيخ الحكيم: أخبرني عن وضعك في البيت ، وهل أنت ممن يخدم أهله ويقضي حوائجهم ويساعد في تلبية طلباتهم، ويدخل السرور عليهم؟
فقال الشاب: لست كذلك ، بل آكل وأشرب وأنام ولا أقدم شيئاً لأهل البيت مما ذكرت ، فقال له الشيخ: إذاً فهذا هو السر في كونهم لا يرغبون فيك ولا يقبلون منك لأنهم يرونك ثقيلاً عليهم عديم الفائدة تريد أن تطاع دون جهد ، وأن يُسمع لك دون أن تقترب من أهلك ، وتجعل لنفسك مكاناً في أسرتك ، هذا خطأ كبير ينبغي لك تصحيحه ، فقال الشاب: وأنى لي أن أصححه ، وقد مضى لي على هذه العادة دهر، فالتغيير صعب علي، بل ومستنكر وقد ألقى بسببه استهجاناً واستهزاءاً ، قال الشيخ: هذه خطوة ضرورية ولابد لك منها ولن يتغير وضعك في البيت دون أن تحسم هذا الأمر وتقرر تغيير حالك من كونك كلاًّ على أهلك وعالة عليهم إلى أن تصبح ركناً من أركان البذل والعطاء والنفع ، وبعدها ستكون محل احترام وقبول ، وإذا أمرت أطاعوك ، وإذا قلت استمعوا لك، إن مثل هذه العلاقات بينك وبينهم كمثل الرصيد في الحساب البنكي ، فإن كان ممتلئاً فإنك تستطيع السحب منه ، وإن كان فارغاً فلن يمنحك شيئاً ولو توسّلت إليه بكل وسيلة ، ولذا فإن عليك أن تملك رصيد حساب العلاقات مع أهلك وأخواتك ، ثم بعد ذلك اسحب ما شئت متى شئت فستجد الإستجابة والقبول وستلقى في سبيل أول خطوة تخطوها للتغير صراعاً مع نفسك ، ولكن أقدم ولا تتردد ، وستكون العاقبة حميدة ، ويعينك الله تعالى.
وبالفعل رجع الشاب إلى بيته بنفسية غير التي خرج بها ، وبدأ يترقب الفرصة لملء الرصيد ، فتوقف عن الإنكار المباشر وصار يوزع الابتسامات ويحيي الجميع ، وذات مساء وجد أخواته يهيئن مجلس النساء فسألهن ما الخبر؟ فأخبروه أن عندهم بعض من سيزورهم فبادر قائلاً: وهل تحتاجون من السوق شيئاً أحضره لكم؟ فقالوا: نعم نحتاج كذا وكذا، فانطلق مسرعاً وأحضر لهم ما يحتاجون ، فلقيت هذه الخطوة استحساناً منهم واستغراباً في الوقت نفسه، وبدأ التسائل ما الذي حصل لأخينا الذي ما رأينا منه خيراً قط ، ولكن علينا أن لا نستعجل في الحكم حتى نرى نهاية المطاف ، وفي نهاية الأسبوع اقترح عليهم أن يخرج بهم إلى البر، فوافقوا وتم الأمر وفرح الجميع ، ثم اقترح عليهم زيارة عمهم الذي لم يروه من مدة ، فوافقوا وتمت الزيارة ، وشعر الجميع أنهم أمام أخ جديد ، اختلف تماماً عن أخيهم السابق في تصرفاته وأخلاقه ، وهنا بدأت المعاملة تتغير ، وصار التلفاز يطفئ أو تغيّر القناة عند وصول أخيهم تقديراً له ورغبة في الجلوس معه ، واقترح عليهم ذات يوم حضور محاضرة ستعقد في دار القرآن قريبة منهم ، فتلكأوا حياءً وخجلاً ، حيث لم يدخلوها من قبل ولا يعرفون أحداً فيها ، فمازال يرغبهم حتى قبلوا ، وحضروا وتأثروا ، وهنا اتفقن الأخوات على وضع التلفاز في غرفة نائية في البيت بدلاً من الصالة التي يجلسون فيها عادة لئلا يضايقوا أخاهم وقرة أعينهم ، فصار التلفاز في مكان مهجور لا يمر به أحد ، ولا يجلس عنده أحد ، وفاز هذا الأخ في نهاية المطاف والتف الجميع عليه ، واستمعوا لقوله ، وصار أباً روحياً لهم ومحلاً للقدوة ، ومصدراً للتغيير والتأثير، وهكذا بالحكمة واللين والمسايسة استطاع أن يغير ما كان صعباً عليه وأن يلين ما كان عسيراً.